سورة البقرة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


قلت: {رغداً}: صفة لمصدر محذوف، أي: أكلا رغداً واسعاً، و{تكونا}: منصوب، جواب الأمر، أو معطوف على {تقرباً}، و{أزلهما}: أوقعهما في الزلل بسبب الأكل، أو أذهبهما عن الجنة، ويدل عليه قراءة حمزة: {فأزالهما} وجملة {بعضكم لبعض عدو}: حالية، أي: متعادين.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وَقُلْنَا يَا آدَم} حين سجدت له الملائكة ودخل الجنة: {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ} حواء {الجنة}، وكانت خلقت من ضلعه الأيسر، {وَكُلا} من ثمار الجنة {حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجِرَةَ}: العنب أو التين أو الحنطة؛ {فَتَكُونَا} إن أكلتما منها {مِنَ الظَّالِمِينَ} لنفسيكما. فدخل إبليس خفية أو في فم الحية، فتكلم مع آدم عليه السلام فقال له آدمُ عليه السلام: ما أحسن هذه الحالة لو كان الخلود. فحفظها إبليس، ووجد فيها مدخلاً من جهة الطمع، فقال له: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةٍ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} [طه: 120] فدلّه على أكل الشجرة، وقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} [الأعرَاف: 20] عنها {إِلاَّ} [الأعراف: 20] كراهية {أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 20، 21]. وأكلت حواء أولاً، ثم قالت له: قد أكلتُ ولم يضرني، ثم أكل آدم عليه السلام من جنس الشجرة، لا من عينها، متأوّلاً، فطار التاج واللباس، وأخرجهما {مما كانا فيه} من رغد العيش والعناء، وأهبطهما إلى الأرض، للتعب والعناء، ليكون خليفة على ما سبق به القضاء.
فقال لهم الحقّ تعالى: {اهْبطُوا} آدم وحواء وإبليس والحية، {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ} استقرار وتمتع {إلَى حِينٍ} وفاتكم، فتقدمون علي فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، {فَتَلَقَّى} أي أخذ {آدم من ربه كلمات} وهي: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مَنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعرَاف: 23]، {فتاب} الحق تعالى عليه واجتباه لحضرته، فإنه توّاب كثير التوبة على عباده، رحيم بهم، أرحم من أبيهم وأمهم، اللهم ارحمنا رحمة تعصمنا بها عن رؤية السّوي، إنك على كل شيء قدير.
الإشارة: يقول الحقّ جلّ جلاله للروح، إذا كمل تهذيبها، وتمت تريبتُها: اسكن أنت وبشريتك التي تزوجتها- قال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التّكوير: 7]- جنة المعارف، وَكُلا من ثمار أذوابها وأنهار علومها، وتبوَّءًا من قصور ترقياتها، أكلاً واسعاً ما دمتما متحليين بالأدب، ولا تقربا شجرة المعصية وسوء الأدب {فتكونا من الظالمين}، فلما سكنت جنة الخلود، وشَرهَتْ إلى الخلود، أهبطها الله إلى أرض العبودية، وردها إلى البقاء؛ لتستحق الخلافة، وتقوم بحقوق الربوبية، بسبب ما ارتكبه من المعصية، وهي الشَّرهُ إلى دوام الحرية، أكْرِمْ بها معصيةً أورثت الخلافة!، فكل ما ينزل بالروح إلى قهرية العبودية، فهو سبب إلى الترقي لشهود نور الربوبية، وربما قضي عليك بالذنب فكان سبب الوصول، فلام أراد الحق تعالى أن ينزلها إلى أرض العبودية بالسلوك بعد الجذب، قال لها ولمن يحاربها من الشيطان والهوى والدنيا وسائر الحظوظ: اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم- أيها العارفون بعد جهاد أعدائكم- في أرض العبودية، استقرار وتمتعٌ بتجليات أنوار الربوبية، إلى حين الملاقاة الحقيقية. فتلقت الروح من ربها كلمات الإنابة، وهبَّ عليها، نسيم الهداية، بما سبق لها من عين العناية، فتاب عليها، وقرَّبها إلى حضرة الشهود، ومعاينة طلعة الملك الودود، إنه تواب رحيم جواد كريم.


قلت: {إن}: شرط، و{ما} زيدت لتقوية الشرط، ولذلك دخلت نون التوكيد، وعبر بإن دون {إذا}، مع تحقق مجيء الهدى؛ لأنه غير واجب عقلاً، وجملة الشرط الثاني وجوابه، الشرط الأول، و{جميعاً} حال مؤكدة؛ أي: اهبطوا أنتم أجمعون، ولذلك لا يقتضي اجماعهم على الهبوط في زمان واحد.
ولما أمر الحقّ جلا جلاله آدم أولاً بالهبوط من الجنة، جعل يبكي ويتضرّع ويقول: ألم تخلقني بيدك؟ ألم تسجد لي ملائكتك؟ ألم تدخلني جنتك؟ ثم ألهم الكلمات التي تلقاها من ربه، فتاب عليه ورحمه، فطمع آدم حين سمع من ربه قبول توبته في البقاء في الجنة، فقال له الحقّ جلّ جلاله: يا آدم لا يجاورني من عصاني، وقد سبقت كلمتي بهبوطك إلى الأرض لتكون خليفتي بذريتك، فكرّر عليه الأمر بالهبوط ثانياً. فقال: {اهبطوا منها جميعا} أنتما بما اشتملتما عليه من ذريتكما. فمهما {يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدىً} أي: بيان وإرشاد إلى توحيدي ومعرفتي، على يد رسول أو نائب عنه، {فَمَن تَبعَ} ذلك الإرشاد، واهتدى إلى معرفتي وتوحيدي، وعمل بطاعتي وتكاليفي، {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من لحُوق مكروه {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} من فوات محبوب، لأني أَصرف عنهم جميع المكاره، وأجلب لهم المنافع، {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} الدالّة على قدرتنا المنزلة على رسلنا، {وَاسْتَكْبَرُواْ} [النِّساء: 173] عن النظر فيها، أو عن الخضوع لمن جاء بها، {أُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
الإشارة: إذا سكنت الأرواح في عُشِّ الحضرة، وتمكنت من الشهود والنظرة، أمرها الحق تعالى بالنزول إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ، فتنزل بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، لا لطلب جزاء أو لقضاء شهوة، بل تنزل بالله ومن الله وإلى الله، فمن نزل منها على هذا الهدى الحسن {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، ومن ركب بحر التوحيد مع غير رئيس عارف، ولم يأوِ إلى سفينة الشريعة، واستكبر عن الخضوع إلى تكاليفها لعبت به الأمواج، فكان من المغرقين. {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}؛ لأن من تحقق ولم يتشرع فقد تزندق، ومن تشرع ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق، جعلنا الله ممن تحقق بهما. وسلك على مهاجهما إلى الممات، آمين.
ولما ذكر الحق تعالى شرف كتابه، ونفى وجد الريب عن ساحته، ثم دعا إلى توحيده، وبرهن على وجوده، بابتداء خلق العالم من عرشه إلى فرشه، وذكر كيفية ابتداء عمارته، خاطب بني إسرائيل؛ لأنهم أهل العلم بالأخبار المتقدمة، وقد مسعوا هذه الأخبار نَبِي أُمِّي لم يُعْهَدْ بقراءةٍ ولا تعلم، فقامت الحجة عليهم، وتحققوا أنه من عند الله. وما منعهم من الإسلام إلا الحسد وحب الرئاسة، فلذلك أطال الحق الكلام معهم، تارةً يُقرِّعَهم على عدم الإيمان وما فعلوا مع أنبيائهم، وتارة يذكرهم النعم التي أنهم الله على أسلافهم.


قلت: {إسرائيل}: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل- عليهم الصلاة السلام- وهو اسم عجمي، وبنو تميم تقول: (إسرائين) بالنون، (وإسرا) بالعبرانية: عبد، و (إيل): اسم الله تعالى، فمعناه: عبد الله، وبنو إسرائيل: هم أولاد يعقوب عليه السلام، و{بعهدي} من إضافة المصدر إلى فاعله، و{بعهدكم} إلى مفعوله، و{إياي} منصوب بفعل مضمر، يُقدر مؤخراً. أي: أياي ارهبوا فارهبون. وحذف مفعول {ارهبون} لرؤوس الآي وكذا قوله: {وإياي فاتقون}، والرهبة: خوف مع تحرُّز، و{تكتموا}: معطوف على {تلبسوا}، أو منصوب بأن مضمرة بعد النهي، و{أنتم تعلمون}: جملة حالية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} التي خصصتُكم بها، بأن فضلتكم على أهل زمانكم، وجعلت فيكم أنبياء ورسلاً، كلما انقرض نبيّ بعثت نبيّاً آخر، وجعلتكم ملوكاً وحكاماً على الناس، قبل أن تفسدوا في الأرض بقتل الأنبياء، فتكفروا بهذه النعم، فإن الإنسان حسود غيروٌ بالطبع، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الحسد والغيرة على السخط والكفران، وإذا نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضا والشكر، فاذكروا ما أنعمت به عليكم، وقيدوه بالشكر، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} الذي عهدت إليكم، وهو أنكم إن أدركتم محمداً صلى الله عليه وسلم لتؤمنن به ولتنصرنه، ولتبينن صفته التي في كتابكم، ولا تكتمونها، {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بأن أدخلكم جنتي، وأبيح لكم النظر إلى وجهي، وأحل عليكم رضواني في جملة عبادي، ولا ترهبوا أحداً غيري، فإنه لا فاعل غيري.
وبادروا إلى الإيمان {بِمَا أَنْزَلْتُ} على محمد رسولي، من كتابي، الذي هو مصدق {لِّمَا مَعَكُمْ} من التوراة، ومهيمن عليه، {وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ} فريق {كَافِرِ بِهِ}، فتبوؤوا بإثمكم وإثم من تبعكم، ولا تستبدلوا الإيمان الذي هو سبب الفوز في الدارين، بالعرضِ الفاني الذي تأخذونه من سفلتكم، فإنه ثمن قليل يعقبه عذاب جليل وخزي كبير. ولا تخشوا أحداً سواي؛ فإن النفع والضرر بيدي، ولا تخلطوا {الْحَقَّ} الذي هو ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته التي في كتابكم، {بِالْبَاطِلِ} الذي تريدونه تحريفاً وتأويلاً، {و} لا {تكتموا الحّقَّ} الذي عندكم، من ذكر محمد وصحة رسالته، {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم محرفون، ولابسون عناداً وحسداً، فيحل عليكم غضبي وعقابي، {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى} [طه: 81]. فإذا حصلتم أصول الدين، وهو الإيمان، فاشتغلوا بفروعه، وهي الصلاة والزكاة وغيرهما، فأدوهما على منهاج المسلمين. واجعلوا صلاتكم في جماعة المؤمنين؛ فإنَّ صلاة الجماعة تُفضلُ غيرها بسبعٍ وعشرين درجة، مع سريان واقتباس الأنوار من الصالحين والأبرار، وبالله التوفيق.
الإشارة: إذا توجَّه الخطاب إلى طائفة مخصوصة، حمله أهل الفهم عن الله على عمومه لكل سامع، فإن الملك إذا عاتب قوماً بمحضر آخرين، كان المراد بذلك تحذير كل مَن يسمع، فكأن الحق جلّ جلاله يقول: يا بني آدم اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وتفكروا في أصولها وفروعها، واشكروني عليها بنسبتها إليَّ وحدي، فإنه لا منعم غيري، فمن شكرني شكرته، ومن فيض إحساني وبري مددته، ومن كفر نعمتي سلبته، وعن بابي طردته، وأوفوا بعهدي بالقيام بوظائف العبودية، أوف بعهدكم بأن أطلعكم على أسرار الربوبية.
أو: {أوفوا بعهدي} بالقيام برسوم الشريعة، {أوفِ بعهدكم} بالهداية إلى منار الطريقة، أو: {أوفوا بعهدي} بسلوك منهاج الطريقة، {أوفِ بعهدكم} بالإيصال إلى عين الحقيقة، أو: {أوفوا بعهدي} بالاستغراق في بحر الشهود، {أوفِ بعهدكم} بالترقي أبداً غلى الملك الودود، وخصّوني بالرهب والرغب، وتوجهوا إليّ في كل سؤال وطلب، أعطف عليكم بعنايتي وودي، وأمنحكم من عظيم إحساني ورفدي، {وآمنوا بما أنزلت} على قلوب أوليائي، ومن مواهب أسراري وآلائي، تصديقاً لما أتحفت به رسلي وأنبيائي، فكل ما ظهر على الأولياء فهو معجزة للأنبياء وتصديق لهم، ولا تبادروا بالإنكار على أوليائي، فتكونوا سبباً في طرد عبادي عن بابي، ولا يمنعكم حب الرئاسة والجاه عن الخضوع إلى أوليائي، ولا ترقبوا أحداً غيري، فإني أمنعكم من شهود سري.
{ولا تلبسوا الحق بالباطل}، فتظهروا شعار الصالحين وتبطنوا أخلاق الفاسقين، تتزيوا بزي الأولياء، تفعلوا فعل الأغوياء، وإذا تحققتم بخصوصية أحد من عبادي، فلا تكتموها عن أهل محبتي وودادي، وأقيموا صلاة القلوب بالخضوع تحت مجاري الأقدار، وأدّوا زكاة النفوس بالذل والانكسار، وكونوا مع الخاشعين، {واركعوا مع الراكعين}، أمنحكم معونتي ونصري، وأفيض عليكم من بحر إحساني وبري، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10